صوت حقوقي نسوي صارخ، نورا من ليبيا إلى تركيا
توسطت نورا عائلتها، فولدت بعد أخت وأخت، وقبل أخ وأخت لوالدين ليبيين في درنة، مهندس نفطي في شركة تنقيب معلمة "اجتماعيات"، أي تاريخ وجغرافيا تربية وطنية، وبسبب طبيعة عمل الأب عاشت الأسرة في "كامباوند" شركة نفطية على ساحل صحراوي بين موظفين ليبيين وأجانب وعائلاتهم، في حالة انعزال عن العائلة الكبيرة والمدينة.
العيش في كامباوند، في مجتمع مغلق، "منعزل-مفتوح" سمح لنورا وأقرانها بعيش خبرة لم تكن سائدة في بلد لم يكن بهذا الانفتاح، إذ تعرفت على ليبيين من مناطق ليبية مختلفة وعلى أجانب داخل هذا المجتمع، الأمر الذي أتاح لها الاطلاع على طبائع وثقافات وأفكار مختلفة.
لهذا، تختار نورا لو عاد بها الزمن العيش في المكان عينه على الرغم من أنه حرمها حياة المدينة الكبيرة والاختلاط بالعائلة الأكبر، أعمام وعمات، أخوال وخالات، "استوعبت خلفيات الثقافات التي تحتضنها ليبيا، وبقدر ما انعزلت عن العائلة الكبيرة بقدر ما صار لدي عائلة أخرى بديلة وفريدة".
المدرسة المختلطة في الكامباوند كانت بدورها حالة استثنائية في ليبيا المحافظة، مدرسة جعلت من نورا ورفاقها يفهمون التعاطي مع مجتمع مختلط على نحو طبيعي دون عوائق أو حواجز مبالغ فيها، أو أفكار مسبقة لا تمت للواقع بصلة. "زملاء وأصدقاء من الجنسين، من المدرسة ثم لاحقًا في الجامعة وبعدها، كان الأمر طبيعيًا لي ولأهلي لأنه معتاد".
المدرسة المختلطة في الكامباوند كانت بدورها حالة استثنائية في ليبيا المحافظة، مدرسة جعلت من نورا ورفاقها يفهمون التعاطي مع مجتمع مختلط على نحو طبيعي دون عوائق أو حواجز مبالغ فيها، أو أفكار مسبقة لا تمت للواقع بصلة. "زملاء وأصدقاء من الجنسين، من المدرسة ثم لاحقًا في الجامعة وبعدها، كان الأمر طبيعيًا لي ولأهلي لأنه معتاد".
"المدرسة من أجمل مراحل حياتي"، مجتمع جميل شعرت فيه نورا بانها حرة غير مقيدة، جو متحرر من كل شروط وأدلجة المدارس الليبية العادية، وزملاء متنوعون، حياة تعلم ومرح كما يجب بالمدرسة أن تكون، كل ذلك أتاح لها أن تكون متفوقة وهو الأمر الذي تعتقد أنه لم يكن ممكنًا لها في مدرسة عادية.
حتى اليوم بعد قرابة 20 سنة عن حياة المدرسة، تستعيد نورا الذكريات لتثبت تأكدها من أن هذه الخبرة الفريدة كانت إضافة مهمة لها، فكل مرة تواجه فيها هجومًا أو حملة تشويه أو انتقاد بسبب مواقفها الحقوقية، يكون على رأس المساندين والداعمين رفاق أيام المدرسة حتى ولو لم يتح لهم اللقاء منذ سنوات وسنوات بسبب الظروف، "لكن السنوات التي قضيناها سوية جعلتنا نعرف بعضنا بعضًا على نحو حقيقي، هم يدعمونني لأنهم يعرفونني حقيقة".
صدر قرار جديد كانت دفعة نورا المدرسية أول من طالتها مفاعيله، وفحواه تغير طريقة الدراسة الثانوية لتصبح تخصصية: هندسية، اجتماعية... إلخ، وفضلت الطالبة الثانوية التوجه الهندسي بينما ارتأت والدتها التوجه المؤدي إلى دراسة طب الأسنان لاحقًا على غرار بنات صديقاتها، فالتخصص الهندسي يكاد يكون حكرًا على الذكور، وهو ليس بخيار مناسب للفتيات برأي والدتها، فاختارت لها التوجه المتعلق بالطب لكي تستغل تفوقها الدراسي أخرجتها من التخصص الهندسي لتلتحق بالطبي (علوم الحياة)، وقاد حظ نورا لاحقًا إلى جامعة سرت البعيدة، ولكن مع بعض التدخلات من معارف نافذين انتقلت إلى كلية طب الأسنان في بنغازي الأقرب حيث شقة للعائلة.
عاشت نورا في شقة العائلة مع أخيها طالب الماجستير في الجامعة عينها لكنها لم تكن سعيدة في دراستها التي لم تكن خيارها الأول، المكان أكبر، أكبر بكثير، ولا أصدقاء... "الشلة" تشتت.
سافر والداها إلى بريطانيا لدواعي دورة تدريبية تخص والدها، فاستغلت نورا الفرصة لتبحث عن جامعة لهندسة الديكور هناك، وطلبت من أهلها تدبر تأشيرة زيارة لها دون أن تعلمهم عن السبب، وسحبت ملفها من جامعة بنغازي قبيل التخرج بينما ظن عميد الكلية أنها قد جنت.
حاملة ملفها سافرت إلى بريطانيا واضعة أهلها أمام الأمر الواقع قبيل عودتهما إلى ليبيا بستة أشهر. أمها رفضت الفكرة في حين عمل والدها على التوصل إلى "اتفاق" معها بمتابعة دراستها التي تحب في بريطانيا بشرط العودة عقب انتهائها إلى ليبيا.
عاشت طالبة هندسة الديكور في مانشستر 3 سنوات فدرست هندسة الديكور لكنها لم تنسجم مع البيئة الاجتماعية هناك ولم تتمكن من تكوين صداقات محلية، كما أن طقس تلك البلاد "الكئيب" ساهم بدوره في أن تجد في دراستها لتعود إلى ليبيا، "اعتبرها أصعب 3 سنوات في حياتي حتى ذلك الحين".
عادت إلى موطنها سنة 2009 كمهندسة ديكور فخورة لتكتشف مصدومة أنها "ستنقع شهادتها في الماء"، إذ لا سوق عمل حقيقي لأولئك الذين يحملون شهادات وخبرات مماثلة لتلك التي جدت نورا 3 سنوات في الاغتراب للحصول عليها. استنتجت أن الشباب في عمر 20-25 سنة قد لا يفترض بهم أن يحددوا توجههم الدراسي المستقبلي قبل بعض العمل والخبرة السابقين لقرار مماثل: هل سأتبع شغفي أم أركز على متطلبات سوق العمل المحلي؟ وهل من الممكن إيجاد حل وسط حسب كل حالة يجمع بين الجانبين؟
"نقعت" شهادتها واستغلت مستواها المتقدم في اللغة الإنكليزية لتخوض غمار العمل كمدرسة في معهد للغة الإنكليزية ببنغازي، وبعد مرور بعض الوقت، أحبت لحسن الحظ عملها الجديد غير المخطط له قبلًا: التفاعل مع الناس وتكوين مجتمع مصغر جديد، والأهم هو شغفها بتمرير أفكارها لطلابها وطالباتها المراهقين والمراهقات.
ماهية هذه الأفكار تأتي من نشأة نورا المختلفة في الكامباوند وجَوّه المميز، وسفرها إلى بريطانيا، وقبل ذلك الجو العائلي المختلف الذي احتضنها، أفكار ذات نزعة تحررية تختص بتغيير أفكار المجتمع الليبي الذي يتسم في جزء كبير منه بالانغلاق في وجه الاختلاف والمحافظة. ليبيون كثيرون في نظرها يختصرون خروجهم كسفر من ليبيا بما هو سطحي من مولات وتسوق وما شابه. ما تريده نورا أن تريهم الجانب الآخر للخروج والسفر والاختلاط بالآخرين، الغنى والانفتاح والتفكير خارج الصندوق.
خاضت تجربة زواج بشاب تعرفت إليه من خلال أقارب مشتركين ومن خلال عملها في المعهد، أعجبت به لأفكاره المختلفة عن المجتمع الليبي، وجدت في ذلك جامع مشترك، وبعد 4 سنوات كان الانفصال على نحو مفاجئ غير تقليدي أو متوقع أدخل نورا في نوع من الصدمة التي تطلبت وقتًا لتخرج منها.
عام بعد الانفصال بدأت نورا بالخروج من الصدمة وأخذت تستوعب شيئًا فشيئًا ما جرى وما يحيط بها، وأدركت من خلال هذه التجربة سلبية سوء قوانين الأحوال الشخصية في ليبيا، وكم من الممكن لتجربة الطلاق في واقع مماثل أن تكون شديدة التأثير السلبي على حياة المرأة، سواءً على الصعيدين الفردي الداخلي أو من خلال تعامل المجتمع المحيط وحكمه.
من خلال منصة سوشيل ميديا متخصصة بقضايا وشؤون المرأة انخرطت نورا في دور توعوي عبرهم. كانت فكرة المشروع من خلال تطبيق "سناب شات" على مدى 3 أيام تستخدم فيه حساب التطبيق الخاص بالمنصة لتتكلم عن يومياتها، فتحدثت عن الطلاق وتجربته والقوانين والمعاناة المرافقة: كيف تقضي يومها وتعمل على مساعدة نفسها مجبرة نفسها على ممارسة حياتها، والمشاركة في نشاطات لاستعادة نفسها قبل أي أحد أو شيء آخر.
كانت ردود الأفعال على ما قامت به خلال هذه الأيام الثلاثة مهولًا غير متوقع إذ لم يكن من المعتاد أن تشارك إحداهن هذه التفاصيل الخاصة وغير المألوفة عن الطلاق في ليبيا.
كانت ردود الأفعال على ما قامت به خلال هذه الأيام الثلاثة مهولًا غير متوقع إذ لم يكن من المعتاد أن تشارك إحداهن هذه التفاصيل الخاصة وغير المألوفة عن الطلاق في ليبيا.
بعد ذلك صارت نورا محط أنظار منظمات ومهتمين، ومحل ثقة نساء مررن بتجارب مؤلمة شبيهة، فبدأت تنفتح أكثر على نشاط في هذا السياق، شعرت بالقوة التي استمدتها من خلال اللواتي شاهدن أنفسهن من خلال خبرة نورا المروية عبر سناب شات، اما أهلها فكما كان متوقعًا منهم كانوا داعمين لابنتهم بقوة.
بحسب تقرير لـ "هيومن رايتس ووتش" فإن "العنف ضد النساء والفتيات -لا سيما العنف الأسري- ما زال مشكلة ضخمة في ليبيا. قلما تصدت قوانين ليبيا ما قبل الثورة لهذه المشكلة، أو تصدت لها بطرق تمييزية"، ويرى التقرير أنه "يجب على المشرعين الليبيين الآن السعي للقضاء على العنف ضد المرأة بصفته شكلًا متفشيًا من أشكال التمييز، بما في ذلك من خلال الإصلاحات الدستورية والتشريعية".
بعد مدة انتقلت إلى إسطنبول من باب التغيير والاستكشاف، وبدأت العمل بناء على خبرتها الأخيرة المستجدة كمحررة سوشيل ميديا في محطة تلفزيونية ليبية خاصة، ومن خلال مشاركتها في برنامج تلفزيوني إنساني شكل "نقطة تحول جديد في حياتي". تعرف أنها كانت جريئة جدًا، لم تسكت أو تهادن في مهاجمة العنف ضد المرأة والصور النمطية وشؤون الحياة الجنسية والتحرش والاغتصاب الزوجي... مواضيع أثارت حفيظة كثيرين من أفراد المجتمع الليبي، حتى أن زميلة مقدمة قالت لنورا في برنامج مباشر أنها تستحق إذا اشتكت من العنف الزوجي!، "لكن الدعم الإنساني الذي تلقيته كان أكبر وأهم بالنسبة لي من النقمة علي".
تعرف نورا أنها كانت جريئة جدًا، لم تسكت أو تهادن في مهاجمة العنف ضد المرأة والصور النمطية وشؤون الحياة الجنسية والتحرش والاغتصاب الزوجي... مواضيع أثارت حفيظة كثيرين من أفراد المجتمع الليبي، حتى أن زميلة مقدمة قالت لنورا في برنامج مباشر أنها تستحق إذا اشتكت من العنف الزوجي!، "لكن الدعم الإنساني الذي تلقيته كان أكبر وأهم بالنسبة لي من النقمة علي
يورد تقرير هيومن رايتس ووتش وجود "ما يُعرف بمراكز التأهيل الاجتماعي الليبية، حيث يتم احتجاز ضحايا العنف ضد المرأة والعنف الأسري". أفادت سيدات وفتيات أن الوضع هناك هو احتجاز وليس حماية طوعية. "بررت الحكومة حينئذ استخدام هذه "البيوت" كإجراء من أجل "حماية" السيدات والفتيات المشتبه بانخراطهن في عمل جنسي "غير شرعي" واللائي رفضتهن أسرهن. لكن لا يمكن للنساء والفتيات في الواقع الخروج من هذه السجون، ولم ترتكب الكثيرات منهن أي جريمة، أو قضت بالفعل مدتها وانقضت. دخلت بعضهن هذه المراكز دون أي سبب سوى أنهن اغتصبن، ثم تم نبذهن لأنهن "وصمن شرف أسرهن"".
غادرت نورا العمل في التلفزيون لتعمل في منصة "تحري" لمواجهة الأخبار المزيفة Fake News والتوعية ضدها، خاصة تلك المتعلقة بالعملية السياسية في ليبيا.
تأتي حقوق الإنسان، والمرأة بشكل عام في ليبيا على رأس لائحة اهتمامات نورا، تعرف عن نفسها اليوم كإنسانية متجردة A humanitarian minimalist، تدرك انها مصنفة ملحدة من قبل بعضهم في ليبيا هو أمر قاتل، خاصة مع نفوذ الجماعات الإسلامية المتطرفة هناك. تعتبر نفسها لاجئة ولو بشكل غير متطابق بالكامل مع التعريف الرسمي القانوني، لا تستطيع العودة إلى وطنها للإقامة أو لمجرد زيارة أهلها، فخطر الموت قتلًا بسبب آرائها ونشاطها الحقوقي حاضر وواقعي.
تعرف عن نفسها اليوم كإنسانية متجردة A humanitarian minimalist، تدرك انها مصنفة ملحدة من قبل بعضهم في ليبيا هو أمر قاتل، خاصة مع نفوذ الجماعات الإسلامية المتطرفة هناك. لا تستطيع العودة إلى وطنها للإقامة أو لمجرد زيارة أهلها، فخطر الموت قتلًا بسبب آرائها ونشاطها الحقوقي حاضر وواقعي
ترغب نورا بالعودة إلى ليبيا في الحقيقة، تريد العمل على "صيانة حقوق كل مكونات الشعب الليبي، حقهم بالوجود والكرامة على تنوعهم، كل الحقوق دون إقصاء أحد".