بين حمص وطرابلس تلاحق حلا طموح التعليم الجامعي
"ورشة 13" هو اسم المكان الذي اختارت حلا أن نلتقي فيه، "مقهى ثقافي" في واحدة من حارات منطقة المينا في طرابلس، غير بعيد عن البحر بطبيعة الحال، تصله سريعًا نسائمه الرطبة. مكان لا يشبه الصورة النمطية عن طرابلس، عقد من الحجر القديم، مزين بصور ولوحات جميلة غير مألوفة، وبيانو صغير إلى جانب مكتبة من الواضح أنهما في مكانهما لأغراض الاستعمال لا الديكور. تأتي حلا، تبدو مرتاحة للمكان متآلفة معه، ويبدأ الحديث على كأسين من الشاي المثلج بالدراق.
ولدت حلا في يوم مميز -على حد تعبيرها- من أحد أعوام أواسط التسعينيات، 14 شباط/فبراير، في أحد أحياء الطبقة الوسطى في حمص، جورة الشياح، أولى مواليد عائلة أبيها. لا تنسى حلا "الدلال" الذي كانت عمتها تخصها به، هو أول ما تذكره عن البيت الذي ترعرعت فيه تحت كنف أبيها وأمها وعمتها بالإضافة إلى جدتها لأبيها.
تصف الشابة الحمصية العائلة الكبيرة بأنها عائلة مثقفة، فيها مثقفون معروفون و"على مستوى"، جدها كان مالك مكتبة ورئيس تحرير جريدة محلية، ربى عائلة متعلمة، متعددة الآراء وأساليب التفكير، من المؤمن المتدين إلى نقيضه، مع كل ما بين الطرفين، تحت سقف واحد.
ومن وصف البيت العائلي والعائلة تنتقل لوصف المحيط الأكبر، حمص التي تتحدث عن هدوئها وجوها المحافظ، تشرح كيف أن نظرتها إلى حمص مرتبطة -دون شك- بنظرتها إلى المدن التي عرفتها لاحقًا بعد خروجها من حمص، الخروج الذي شكل محطة فارقة في حياتها.
قررت العائلة الخروج من حمص عندما كان عمر حلا 15 سنة وبضعة أشهر، "مع وصول السلاح وبدء إطلاق النار خرجنا خوفًا على أنفسنا، في البداية خرجنا من جورة الشياح، ثم من حمص باتجاه دمشق وبعدها إلى لبنان". وجود الأقارب ومناطق توزعهم لعب دورًا أساسيًا في خط طريق سير العائلة التي حطت رحالها في بيت عمة ثانية في طرابلس على ثقة بأنها "مجرد 15 يوم ونعود ما إن تهدأ الأمور".
تشعر حلا أنها لم تكبر في حمص التي خرجت منها باكرًا مجبرة، كما أنها لم تكبر كما يكبر الآخرون في ظروف "طبيعية"، لم تراهق كما راهق من هم في عمرها في مناطق أخرى، "لم تمهلني الضغوط والمتطلبات، كانت تفرض علي أن أنضج وأكبر بسرعة، فهناك أمور أهم لا تنتظر!"، العثور على مدرسة لمتابعة الدراسة، وويلات الحرب وأخبارها، وكل الصعوبات الحياتية المتأتية من ترك المدينة الأم والتنقل بين هنا وهناك.
على الرغم من أن ظروف لجوء حلا وعائلتها كانت أقل صعوبة بكثير من ظروف عائلات أخرى إلا أنها لم تعفهم من غياب الاستقرار الضروري عن حياتهم، ولكن، تضيف حلا: " صحيح أن الحرب تجربة سلبية مؤلمة، لكنها أحيانًا صيرورة ضرورية في مسيرة الشعوب، تستعيد من خلالها حيويتها". واللجوء من جهة أخرى إلى بلد كلبنان في حالة حلا علمها الكثير وساهم في الإضافة على شخصيتها.
في حمص كانت الأمور بحسب حلا محكومة بمجتمعها، "فهناك لن تعرف إلا ابن ملتك"، هو يشبهك في كل شيء، ويكاد لا يختلف عنك في أمر من الأمور، أما في لبنان فالتنوع يفرض نفسه على تفاصيل الحياة اليومية، ويطرح الاحتكاك باللبنانيين على تنوعهم وأيضًا بالسوريين من مناطق ومشارب مختلفة، لربما لن تكون لك الفرصة للاحتكاك بهم في ظروف اعتيادية في سوريا، خاصة لمن هم في عمر حلا.
لم تسمح الضغوط الاقتصادية ببقاء العائلة في لبنان، فعادت إلى حمص دون أن تفرض قرارها على حلا التي اختارت البقاء، العودة إلى حمص بالنسبة إلى حلا كانت عودة إلى أمر مختلف عما بدأت تعتاد عليه في لبنان، قد يكون صعبًا لكنه ممتع من حيث أنه يعلم الشخص ويزيد من خبراته، بالإضافة إلى واقع الصعوبات المعيشية اليومية في سوريا مقارنة بلبنان حينها، "العودة تلغي الخيار بالانطلاق".
عادت -رغم ذلك- إلى حمص لفترة وجيزة لتتقدم لامتحانات الثانوية العامة وتنال الشهادة. التوتر والقصف كانا أمرين يوميين هناك، وكأن الوضع العام ليس سيئًا بما فيه الكفاية ليأتي حظ حلا السيء ويجعل نصيبها من مراكز التقدم للامتحان ذاك الواقع في حي باب عمرو ذو الموقع الحساس، "كانت مذاكرة وامتحانات مع هدير الطيران الحربي وأصوات القذائف والقصف"، فعلت حلا ما بوسعها وحصلت على شهادتها لتحملها وتعود بها إلى طرابلس.
بهذه الطريقة بدأت مسيرة حلا الجدية مع العمل ولها من العمر 18 عامًا، بدءًا من أعمال صغيرة كتعبئة المكسرات في محمصة. العمل كان ضروريًا لتأمين ضرورات المعيشة، بينما كان عقل وقلب حلا في مكان آخر: التعليم الجامعي.
قد تكون قصة حلا، وسعيها للانخراط في ميادين الدراسة الجامعية، قصة كثير من الشباب السوري اللاجئ في لبنان. بهذا المعنى تعني تفاصيل مسيرتها نحو هذا التعليم شريحة كاملة من السوريين لا فقط شخصها، تتقاطع قصصهم في محطات وتفترق في أخرى.
في حقيقة الأمر يبدو للمراقب أن التعليم الجامعي للاجئين السوريين لم يلق الاهتمام نفسه الذي لقيه التعليم المدرسي، وهو أمر قد يمكن تفسيره بأن التعليم المدرسي إلزامي ولا بد منه في حين أن الجامعي ليس للجميع بطبيعة الحال.
خيار حلا الأول كان أشبه بالحلم، أن تنال شهادة جامعية في العمل الإعلامي وتحقق طموح الطفولة في أن تكون مراسلة من مناطق العمليات لتنقل الحقيقة. ربما لعمل جدها كرئيس تحرير جريدة محلية في حمص تأثير على حلم حلا الطفلة هذا، دفع ضعف مستوى وسمعة الجامعات التي أتيح لحلا أن تدرس فيها اختصاصًا مماثلًا إلى خيار آخر هو دراسة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية.
على أرض الواقع يمكن توزيع الجامعات اللبنانية بشكل عام على فئات ثلاث، الجامعة اللبنانية الرسمية بفروعها المتعددة التي تعرف بمستوىً جيد وكلفة منخفضة نسبيًا، والجامعات الخاصة التي منها ما يعود إلى أكثر من 150 سنة عمرًا وهي تتمتع بمستوىً جيد وجيد جدًا لكن كلفة التعلم فيها مرتفعة، أما الفئة الثالثة فهي جامعات خاصة حديثة العهد نسبيًا خرجت إلى النور نتيجة التزاوج بين النفوذ السياسي والمالي فكانت مؤسسات جامعية ضعيفة المستوى شاع تسميتها بالـ "دكاكين"، وهذه الأخيرة هي تمامًا ما حاولت حلا تجنبه.
على أي حال لم تكن الجامعات اللبنانية على فئاتها غريبة عن الطلاب السوريين قبل 2011، إذ ارتادوها بسبب إقامتهم في لبنان أو سعيًا نحو اختصاصات غير متوفرة في الجامعات السورية، أو بسبب عدم تمكنهم من الانخراط في النظام الجامعي السوري.
لتأمين ضرورات الحياة جربت حلا العمل في إجراء المقابلات وجمع المعلومات للاستبيانات المخصصة للأبحاث الاجتماعية، وبعض الأعمال المؤقتة الأخرى، فتعرفت على جوانب مختلفة لمجتمع اللجوء والمجتمع المستضيف له، والذكورية في التعامل معها بوصفها شابة مستقلة. حتى أن بعض الأشخاص والجهات المعنية بالتعامل مع اللاجئين وحمايتهم لم يكونوا بعيدين عن محاولتهم استغلال الشابة القادمة من حمص.
لم يكن التوفيق بين ضرورة العمل اليومي وشرط الدوام في الجامعة اللبنانية ممكنًا في نهاية المطاف، ما أدى بهذه التجربة، تجربة التعلم في الجامعة اللبنانية، إلى الفشل بعد أن أنهت مقررات مخصصة لسنة ونص في 4 سنوات. لكن العمل بدوره كان معلمًا، "العمل يربي ويعلم ويجعل منك إنسانًا. يؤثر على نحو أعمق مما يمكن للتعليم النظري أن يفعل". في هذه المرحلة من حياة حلا بدا العمل أهم وأكثر إفادة من أي أمر آخر، وهكذا تأجل الطموح إلى وقت لاحق، خاصة مع استحالة الدراسة في الجامعة اللبنانية، المميزة بمستوى تدريسها ولكن دون أي مرونة في الشروط بشأن طالبة عليها أن تعمل وتهتم بجميع حاجاتها وحدها وتقديم المساندة والدعم لأهلها إلى جانب الدراسة.
تعوق الأوضاع الاقتصادية الضاغطة على اللاجئين قدرتهم على الاهتمام بأمور أخرى أساسية كالدراسة، مما يدفعهم إلى تخصيص وقتهم لتحصيل قوت العيش الذي يأتي كأولوية تتفوق على التعليم أو أي حاجة أخرى، بالإضافة إلى تأثير هذه الأوضاع في عدم توفر الموارد المالية الكافية لدفع الأقساط الجامعية.
تفاقم سوء الأحوال الاقتصادية خلال العامين المنصرمين بسبب جائحة كورونا، والانهيار الاقتصادي المالي في لبنان، بالإضافة إلى تبعات انفجار مرفأ بيروت، شكل ضغطًا اضافيًا على من هم أكثر ضعفًا من لاجئين ومواطنين ليوسع الفجوة التي تفصلهم عن متابعة تعليمهم.
لا تطول هذه الصعوبات حلا وحدها من بين كل الطلاب الجامعيين السوريين في لبنان، فبحسب دراسة لمعهد عصام فارس في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 2019 هناك 7000 لاجئ سوري مسجل في الجامعات اللبنانية، أي 6% فقط من السوريين في سن الدراسة الجامعية 18-24 سنة (117000 لاجئ)، في حين أن نسبة السوريين في الفئة العمرية نفسها الذين درسوا في الجامعات السورية قبل سنة 2011 كانت 25% من السوريين في سن الدراسة الجامعية.
ضعف الطلاب السوريين في اللغة الأجنبية (الفرنسية والإنكليزية) التي تقوم عليها الدراسة كليًا أو جزئيًا في الجامعات اللبنانية، تزيد العقبات دون الانخراط في هذه الجامعات، لكن العمل التطوعي في جمعيات تضم متطوعين أجانب فتح الباب أمام حلا لتطوير لغتها الأجنبية والحصول على مساعدتهم للتقديم على منح جامعية خارج لبنان لم يصل بشأن أي منها جواب إيجابي. أمر محبط لم يدفع حلا للتنازل عن شرطها بالتعلم في جامعة جيدة المستوى، تقدم تعليمًا حقيقيًا لا شهادة والسلام.
لوحظ في الظروف الحالية التي يشهدها لبنان منذ حوالي سنتين تراجع المنح الجامعية الممنوحة للسوريين وهي كانت أقل من المطلوب أصلًا بحسب مسؤولة في منظمة تعليمية سورية فضلت عدم ذكر اسمها، مرجعة السبب إلى اهتمام المانحين بمشاريع أخرى، تقلص حجم الدعم بشكل عام في حين اشتداد الحاجة إلى تقديم مساعدات في مجالات تعد أكثر حيوية لحياة اللاجئين كالغذاء والطبابة. بالإضافة إلى ذلك يمكن ملاحظة توجه المانحين إلى دعم التدريب المهني للسوريين في عمر التعليم الجامعي بدل دعم منح جامعية يرون فيها كلفة أكبر وجدوى أقل من التعليم المهني. بالإضافة إلى أن التعقيدات والقيود المصرفية المرتبطة بالانهيار اللبناني صعب من وصول التمويل اللازم للمنح القليلة أصلًا المخصصة للسوريين، كما أعاد توجيه قسم منها إلى حاجات أكثر إلحاحًا.
لم تضع حلا الوقت في انتظار فرصة أو منحة، والتزمت مدفوعةً بحبها للأطفال بدورات في الجامعة الامريكية في بيروت، فكونت خبرة علمية حول الصعوبات التعلمية وطرق التعامل مع أصحابها.
بالإضافة إلى الصعوبات التي تعترض مسيرة دراسة حلا الجامعية، هناك -في السياق نفسه- معوقات أخرى يعاني منها الطلاب السوريون في لبنان، كعدم القدرة على الحصول على الأوراق الرسمية اللازمة لفقدانها في سوريا جراء الحرب، أو تلك الخاصة في الإقامة في لبنان بسبب كلفتها المرتفعة والتعقيدات الإدارية التي تحول دون الحصول عليها، والتي بدونها تصير تنقلات الطلاب السوريين أكثر صعوبة وعرضة للمساءلة القانونية والتوقيف على الحواجز الأمنية والعسكرية.
مفارقة من الجدير ذكرها هنا مفادها أن بعض اللاجئين يقومون بالتسجيل الشكلي في الجامعات دون نية متابعة الدراسة فيها على أمل أن يؤهلهم ذلك للحصول على إقامة طالب تسمح لهم بحرية الحركة.
مر وقت وخبرات متعددة، ما عرفته وعاينته من أحوال النازحين واللاجئين وعمل مؤسسات المجتمع المدني، جعل حلا تحلم اليوم باختصاص في العلاقات العامة أو الدولية، في بريطانيا أو كندا ربما، من يعلم؟! ما زال همها وحلمها إيصال الصوت ونقل الحقيقة، فقط الوسيلة اختلفت.
الشعور بأن ضغوط الحياة وضرورات العمل تأخذها من حلمها مزعج، تتحاشى التفكير فيه، مع بقاءها على إصراره بشأن هذا الحلم، تنتظر فرصة أو لحظة مناسبة لتتابع مسيرتها نحو حلمها.