مُهجّرة في كينيا لاجئة في لبنان... تبقى حقوق العاملات أولوية
"لا يعرف المرء إلى أي بلدان ودروب ستقوده حياته". هذا ما تؤمن به أوليف، فهي حين ولدت ونشأت ودرست لم تسمع حتى باسم بلد يدعى لبنان.
ولدت أوليف في كينيا سنة 1990، في أسرة مكونة من 6 أبناء، عاش منهم 3، شابان إلى جانب صاحبة القصة، يعولهم أب مزارع، ينتج القمح وبعض الحبوب الأخرى، لكن الإنتاج لم يكن كافيًا ما جعل حياة الأسرة شاقة وطفولة الصبية اليافعة صعبة.
تعلمت مساعدة والدها منذ صغرها، فصارت مزارعة ماهرة، تعلمت الإحساس بالنباتات والتعامل معها وإنباتها بكل مهارة ونجاح. تعلمت من الأرض الصبر، أن تبذل جهدًا وتنتظر النتيجة، وأن تقدر المنتجات الطبيعية الطازجة التي باتت تراها اليوم كمنتج فاخر في حين كانت هذه المنتجات قوتها اليومي الاعتيادي.
واظبت على الدوام في مدرسة القرية، أحبتها وأحبت مادة العلوم التي ساعدتها على فهم الكثير من الأمور بما فيها النباتات والزراعة، ونجحت في التوفيق بين مدرستها ومساعدة والدها في الأرض حتى نالت شهادة الثانوية العامة، أحبت أن تتخصص في التمريض لكن الكلفة المادية العالية حالت دون تحقيق طموح الفتاة الشابة، 3000 دولار لخمس فصول دراسية كانت أمرًا مستحيل المنال. عملت لفترة في صيدلية وعيادة قريبتين وكانت تحاول في الوقت عينه التفكير في كيفية تحقيق طموحها.
لم يتح الوقت لأوليف لتفكر، جاءت صراعات أهلية بين القبائل والأحزاب بسبب الانتخابات، فساءت الأوضاع وحصل اقتتال عنيف رافقه دمار لم يكد يعف أحدًا، احترق المحصول ودمر بيت العائلة الصغير وتهجر أهله هربًا نحو مكان أكثر أمانًا، وصار طموح الفتاة حلمًا بعيد المنال.
لم يتح الوقت لأوليف لتفكر، جاءت صراعات أهلية بين القبائل والأحزاب بسبب الانتخابات، فساءت الأوضاع وحصل اقتتال عنيف رافقه دمار لم يكد يعف أحدًا، احترق المحصول ودمر بيت العائلة الصغير وتهجر أهله هربًا نحو مكان أكثر أمانًا، وصار طموح الفتاة حلمًا بعيد المنال.
انتقلت وحدها إلى المدينة لتعيش مع جدة والدها، فعاشت أيامًا صعبة، نامت أحيانًا في الشارع، وحملت مسؤولية إضافية لا تخلو من فرح كبير بأن أصبحت أمًا عزباء لطفل جميل.
جاء يوم كلم فيها أحدهم والدها عن فكرة العمل في لبنان، صوّر لهما الأمر على أنه عمل ودراسة جامعية جنبًا إلى جنب، أي أن تعمل في الخدمة المنزلية وأن تذهب حين اللزوم إلى الجامعة لتتابع الدراسة التي أحبتها... "كذبوا علينا أنا وأبي".
تاركة طفلها خلفها في عناية جدتها، غادرت أوليف إلى بيروت سنة 2011، وصلت، وعرفت سريعًا أنها أتت لتستبدل بسيدة من نيبال كانت تعمل لدى عائلة لبنانية، ودون تأخر علمت أن لا دراسة ولا من يحزنون، وأن أتعابها لن تتعدى 200 دولار في الشهر. أخذت تبكي وعادت إلى مكتب استقدام العاملات باكية، كان من حسن حظها أن مدير المكتب كان مختلفًا عن كثيرين من زملائه، متفهم وطيب، وعلى الرغم من صعوبة التواصل، بقيت في المكتب لأشهر، ثم عملت في منزل عائلة لبنانية، تهتم بامرأة مسنة، بالإضافة إلى الأعمال المنزلية. كان أمرًا مرهقًا وجهدًا متواصلًا، ولكنها رأت في العناية بالسيدة العجوز خبرة ليست ببعيدة عن التمريض الذي حلمت به، بقيت على هذا الحال 3 سنوات، تعمل وترسل مقابل تعبها وسهرها إلى أهلها في كينيا لتعيلهم وتعيل طفلها، حتى قررت سنة 2014 زيارة بلدها بعد سنوات من الغربة.
زيارة سريعة لأسبوعين. عدم وجود مدخرات ومقومات للعمل في بلدها دفعاها سريعًا إلى العودة من حيث أتت، فعملت في محل لآلات المقامرة "بوكر" في تقديم القهوة والشاي والماء، "كان عملًا جيدًا، الراتب بالإضافة إلى الإكراميات كانا عادلين"، حتى جاء بعد سنة على العمل أمرٌ من الأمن العام بمنع عمل الأجانب في هذه المحلات.
تابعت دروس مدفوعة في التدليك أونلاين، نالت شهادة في ذلك كمعالجة بالتدليك، أحبت امتلاك هذه المهارة، التدليك والعلاج الفيزيائي، ربما ليس بطريقة طبية منهجية تمامًا، لكن على نحو جيد مكنها من تلمس ألم الآخر، والعمل على معالجته، والشعور برضى رفعه عن كاهل صاحب الألم.
اندلعت الاحتجاجات في لبنان سنة 2019، بعد بدء الأحوال الاقتصادية بالتراجع ثم الانهيار، خسرت العاملات من زميلات أوليف في لبنان القدرة الشرائية مع تراجع قيمة صرف العملة المحلية، بل وامتناع كثيرين من أرباب العمل عن دفع مستحقات العاملات، ثم جاء انفجار مرفأ بيروت ليزيد الطين بلة، وتطورت أوضاع سكان البلد من مواطنين ومقيمين من سيء لأسوأ.
طالت التأثيراتُ السلبية الشديدة للانهيار في لبنان مختلف الفئات والجنسيات، وخاصة تلك التي هي أكثر ضعفًا من لبنانيين محدودي الدخل، ولاجئين فلسطينيين، وسوريين، وعمال أجانب... والفئة الأخيرة (أي العمال الأجانب) تتضمن عاملات الخدمة المنزلية والتنظيف وما شابه، القادمات غالبًا من دول أفريقية وشرق آسيوية، من مجتمعات معوزة. وهي فئة كانت تعاني منذ ما قبل الأزمة الحالية مشاكل عديدة، وتواجه انتهاكات جسيمة خلال عملها في لبنان.
قانون العمل اللبناني، كان وما زال رغم التطور الذي طرأ عليه بابًا واسعًا لتمرير الانتهاكات بحق هؤلاء النساء المستضعفات، المحرومات في كثير من الحالات الأجورَ العادلة أو حرية التنقل والحركة أو تحديد ساعات العمل أو الاستفادة من العطل الأسبوعية. وتَحفل سجلات المنظمات المعنية بتوثيق هذه الانتهاكات بحق النساء المتضررات، بعدد كبير من الحالات المتضمنة عنفًا معنويًّا أو ماديًّا أو تحرُّشًا جنسيًّا أو حالات انتحار مُريبة.
زاد كل هذا -من حيث الكم والنوع- مع التراجع الفعلي لدخل المواطنين اللبنانيين، والحد الشديد من قدرتهم على دفع مرتَّبات هؤلاء العاملات التي تتراوح عادة بين 200 و600 دولار أميركي، في بلد وصلت فيه قيمة الحد الأدنى للأجور اليوم إلى ما يقارب 50 دولارًا تقريبًا.
ذهبت أوليف إلى قنصلية بلدها لتجدد جواز سفرها المنتهي تاريخ الصلاحية، فطلبوا منها 400 بدل 50 دولار المعتادة في بلدها، المبلغ الذي لم يكن بحوزتها، "اكتشفت فساد القنصلية والدور الذي يلعبه الموظفون المحليون". لا تجديد للإقامة دون جواز ساري الصلاحية، فأصبحت أوليف دون إقامة، وجودها غير شرعي، ما جعل حياتها، تنقلها وعملها أصعب، وساهم الفساد المذكور وارتفاع كلفة تجديد الوثائق الثبوتية في جعل عودة السيدات العاملات إلى بلدهن مستحيلًا إذ لا يملك أغلبهن مع كل ما يشهده البلد من إنهيار الكلفة اللازمة لذلك.
بالصدفة التقت أوليف بمواطنة لها في حال يرثى لها، فساعدتها وأمنت لها ما يلزم بقدر استطاعتها، وعبر هذه المواطنة، ومن سيدة لأخرى، باتت أوليف تتلقى اتصالات سيدات يطلبن المساعدة. لاحقًا، علمت من خلال فيسبوك باعتصام احتجاجي أمام مقر القنصلية الكينية في بيروت للمطالبة بأداء واجبها تجاه مواطناتها، والمساعدة على عودتهن إلى بلدهن من بلد باتت الحياة فيه بالنسبة لهن تفتقر إلى الحقوق الأساسية من قوت ومشرب ومأوى، لم تصدق أوليفيا للوهلة الأولى، ولكنها تأكدت من وجود السيدات هناك، فانطلقت لموافاتهن حيث بدأ اعتصام طويل على الرغم من سوء الطقس وانتشار كوفيد 19، للمطالبة بمساعدة أولئك السيدات اللواتي تلقين قبلًا العديد من الوعود التي لم تنفذ. حتى اللواتي تم استقبالهن في ملجأ تابع لمنظمة معروفة عالميًا، جرى التعامل معهن بطريقة سيئة.
لم تصدق أوليفيا للوهلة الأولى، ولكنها تأكدت من وجود السيدات هناك، فانطلقت لموافاتهن حيث بدأ اعتصام طويل على الرغم من سوء الطقس وانتشار كوفيد 19، للمطالبة بمساعدة أولئك السيدات اللواتي تلقين قبلًا العديد من الوعود التي لم تنفذ.
كشفت مقابلات مع عينة من السيدات العاملات حجم الانتهاكات ونوعها، حيث عانت غالبيتهن عدم دفع رواتبهن منذ عدة أشهر. وفي حالة واحدة موثَّقة، لم تتقاضَ فيها إحدى العاملات أيَّ راتب أو بدل مالي لقاء 5 سنوات كاملة من العمل في منزل عائلة. وبدا على نحو واضح أن الانتهاكات المعنوية المتمثلة بالتصرفات والتعابير العنصرية بحقِّ أولئك العاملات مِن قِبل أرباب عملهن، كانت أشدَّ تأثيرًا وأعمق رسوخًا في ذاكرتهنّ، من تلك المتعلقة بطول ساعات العمل وحرمانهن الراتب على سبيل المثال.
أوضحت أحاديثُ جانبية إلى بعض هؤلاء السيدات، ومشارَكةٌ في فيديوهات وصور عن بلدهن ومجتمعاتهن، حجم البؤس أو العوز الذي عشنه في بلدهن، وسطوة قوة الأمر الواقع هناك، وما تفرضه من شروط ونمط حياة على سكان بعض الأحياء والمناطق شبه الخارجة عن سيطرة الحكومة؛ ما قد يفسر جزئيًّا سبب قبول هؤلاء السيدات خوض مغامرة السفر والعمل دون أي ضمانات، سعيًا نحو حلم الحياة الكريمة لهن ولعائلاتهن.
أرادت أوليف إيصال صوت السيدات إلى حكومة بلدها لدفعها للتحرك، ساهمت في نشر ملصقات احتجاجية والمطالبة بحقوق السيدات الكينيات العاملات. ناضلت، ودعمت مواطناتها، على صعيد الحاجات المادية اليومية، وعلى صعيد العلاج الطبي والمتابعة النفسية لحالات لسيدات عانين من صدمة نفسية جراء ما مررن به من صعوبات وانتهاكات، تواصلت مع أطباء بلا حدود وبعض الجهات الأخرى والأفراد المهتمين بالمساعدة، كله في سبيل تأمين بعض ما يلزم، وصارت محل استهداف من المتضررين من نشاطها من مستفيدين محليين، وحتى من جهات متصلة بالقنصلية بصفتها -أي أوليف- مصدر إزعاج كبير، "شعرتُ أن هذا هو الوقت المناسب من أجل النضال، من أجل الحفاظ على حياتي وحياة زميلاتي".
شعرتُ أن هذا هو الوقت المناسب من أجل النضال، من أجل الحفاظ على حياتي وحياة زميلاتي
ساهمت المنظمة الدولية للهجرة في تسهيل سفر بعض السيدات إلى بلدهن، أثمرت احتجاجات أوليف ومواطناتها التطوعية الكثير من النتائج الإيجابية رغم كل المخاطر، ولكنها ما تزال خائفة من التضييق عليها بسبب نشاطها، وهي اليوم تحضر نفسها للعودة قريبًا إلى وطنها بعد 10 سنوات من العيش والعمل في لبنان.
اليوم، وعلى الرغم من عودة أغلب هؤلاء السيدات إلى بلدهن، وعودة ألوف أخريات غيرهن إلى بلدانهن المختلفة، فإنَّ قدوم سيدات عاملات جديدات لم يتوقف -وإن تراجع بشكل ملحوظ-، وبدا من خلال الخبرة الموصوفة آنفًا أن الانتهاكات لن تتوقف بدورها
لا تعلم بالضبط ماذا ستفعل في كينيا، "أحتاج بعض الوقت لأفهم الوضع الحالي هناك، فأنا لا أعرف الواقع الذي لا بد أنه تغير عبر الوقت هناك"، تحلم بأن تفتح مركز تجميل وتدليك إن توفرت لها الموارد، أتت إلى لبنان بعد أن كانت مهجرة في بلدها، لتصبح لاجئة في لبنان بحسب تعبيرها، لكنها ستستمر في النضال في سبيل حقوق العاملات، "تحقيق السعادة لهن يجعلني بدوري أشعر بالسعادة".